المبحث الثالث
قتال من يحاول فتنة المسلمين عن دينهمإن الجهاد في سبيل الله - تعالى - ليس من الأمور الاختيارية التي يسع المسلمين تركها ، ولا لهم مندوحة في عدم أدائها ، ولكنه قاعدة عريضة من قواعد الدين ، ومطلب من متطلباته الحتمية ، وهي أساس عز المسلمين ، وفلاحهم في الدنيا والآخرة .
ولو أن الأمة الإسلامية تقاعست عن الجهاد ، وفضلت السلامة ، وأخلدت إلى الراحة ، وركنت إلى الدعة ، واستبدلت الجهاد بالقصور والانكباب على الملذات والشهوات لسلط الله عليها أعداءها ، فأذاقوها لباس الذل والهوان ، والخوف والبؤس ، وهذه كلها داخلة في الفتنة المذكورة مرتين في قوله تعالى : والفتنة أشد من القتل ( ) ، والفتنة أكبر من القتل ( ) .
وما حصل هذا الذل الذي تعيشه الأمة اليوم من تسلط الأعداء ، وشماتة الخبثاء إلا لأنها تركت هذا الواجب العظيم في دينها ، هذا الواجب الذي إذا قام به المسلمون خير قيام اندفعت عنهم مكائد الكافرين ، ونالوا بذلك العزة في الدنيا والآخرة : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ( ) .
لقـد أبلى رسول الله وأصحابه في قتال الكفار بلاءً حسنًا ، حتى أظهر الله - تعالى - دينه ، ونَعِمَ الخلق بحكم القرآن ، وعدل المسلمين ، وانكسرت شوكة الكفر ، واختفى أهل الباطل ، وزالت العوائق كلُّها ، وصارت كلمة الله - تعالى - هي العليا
والقوة تحميها وتسندها ، وكلمة الباطل هي السفلى ، وأهلها مخذولون .
ولقد استغرق القرآن الكريم والسنة الشريفة في توضيح هذا المعنى ، ولم يتركا مزيدًا عليه .
فلماذا كل هذا الاعتناء بهذه الشعيرة الإسلامية ؟
لماذا هذا الاهتمام البالغ ، والعناية الكبيرة بأمر الجهاد ؟
ذلك لأن المجتمع المسلم ذا الطبيعة الرسالية مهدد بنزول الفتنة في صفوفه ، وبالتدهور من أركانه نحو نهايته ، وبسوء المصير حين يفتر أو يغفل عن الجهاد في سبيل الله - عزّ وجل - .
نعم إن الجهاد في الإسلام هو أساس قوة الأخلاق والسلوك ، وأساس قوة التربية والإيمان ، وأساس قوة الدولة والسياسة ، كما أنه أساس قوة المجتمع المسلم النفسي والمعنوي .
الجهاد في سبيل الله (( هو الفِكرة المصلِحة ، تريد أن تضرب في الأرض وتعمل ))
الهدف من قتال الكفار المتأمل في الهدف الذي شرع له القتال في الإسلام يجد أنه لا يخرج عن هدفين رئيسين : 1- دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين ، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان ويرجعون بعبوديتهم لله وحده ، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال ، فهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام ، وتنفذه في عالم الواقع ، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين ، أو يصد بالقوة ، وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه .
وجعل الله - عز وجل - الغاية من القتال زوال الفتنة عن الدين ؛ لأن القيمة للعقيدة ، والقتال من أجلها ، والموالاة والمعاداة في سبيلها ، والجناية على العقيدة أشد من الجناية على النفس والمال والوطن ، ولهذا لا تجوز مسالمة الجاني على العقيدة بمختلف المطاعن ، في أي وسيلة من وسائل الشر الظاهر أو الدس الخفي في وسائل التعليم ، وإن أبدى المسالمة والمصادفة في الأمور السياسية رعاية لمصالحه ، فإنه لا يجوز للقيادة الإسلامية تركه يستجم ، وينمو على حساب العقيدة أبدًا .
ومن كانت غضبته لمصالحه أو كرامته الشخصية أشد من غضبته للدين فليس من الله في شيء ، حيث لا يغضب إلا لنفسه ، ويسالم الجاني إذا تملَّقه .
إن الواجب على كل مسلم التمعن في حقيقة قوله - عزّ وجل - : والفتنة أشد من القتل ( ) ، والتمعن أيضًا في سبب عداوة الكافر والملحد والمنافق للدين بقوله تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ( ) فإنهم لا يتركون حرب المسلمين بجميع أنواع الحرب الكاوية والباردة ، الحرب الفكرية والعسكرية حتى يردوا من استطاعوا ردته عن دينه شيبًا وشبابًا ، رجالاً ونساءً ( ) .
نعم إن قتال هؤلاء الكفار حماية للأرواح والأموال من القتل والنهب ، وحماية للدين والعقيدة من أن تحرف ، أو تغير وتُبدل .
حماية للأرواح من القتل والإزهاق ، وحماية للأموال والممتلكات من الإتلاف ، وأهم من ذلك كله حماية العقيدة التي يحملها المسلمون في قلوبهم ، ويدخل في حماية العقيدة إزالة الضغوط والحواجز التي تحول بين الناس والإسلام . وإن تلك الضغوط والحواجز كانت ولا تزال قائمة في كثير من البلاد ، سواء تمثلت في أوضاع وأنظمة قائمة على الكفر والجاهلية ، مسيطرة على الحياة العامة ، يتربى عليها الناس ، أو تمثلت في قوانين تمنع من الدخول في الإسلام ، أو تمثلت في تعذيب من أسلم ، وإكراهه على الردة .
فرفع راية الجهاد إذًا هو تحرك عملي مشروع لرفع هذه الفتنة ، وإزالتها بالكلية ، أو تخفيفها والحد منها ( ) .
2- تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر في صورة من الصور ، لضمان الهدف الأول ، ثم لإعلان أُلوهية الله - تعالى - وحدها في الأرض كلِّها ، بحيث لا تكون هناك دينونة إلا لله وحده ، وتحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله - تعالى - في الأرض ، أو بالتعبير القرآني الفريد : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ( ) .
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ( ) ( ) .
وإذا تقرر في أذهاننا هذان الهدفان الرئيسان من قتال الكفار ، فينبغي أن يتقرر في أذهاننا أيضًا أن القتال في الإسلام لا يعني فقط قتال من يحاول الفتنة ، بل إن من حق الإسلام المطلق أن ينطلق في الأرض كلِّها لتحرير البشرية من العبودية للعباد ، وردها إلى الله - تعالى - وحده حيثما كان ذلك ممكنًا له .
وإذا ألغينا هذا المبدأ الحق فإن دين الله - عزّ وجل - يفقد حقّه في أن يزيل العقبات المادية عن طريق الدعوة ، ويفقد كذلك جديته وواقعه في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة ، بوسائل متجددة ، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية ، وهو هزال لا يرضاه الله - تعالى - لدينه في هذه الأرض .
وإن مما يؤكـد هـذه الحقيقة - أعني حقيقة أن القتال في الإسلام ليس دفاعًا فقط - أنه لم يكن أحد من الصحابة والسلف الكرام يُسأل عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ، أو نَصُدُّ عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ، أو خرجنا نوسِّع رقعتنا ، ونستكثر من الغنيمة ، لقد كانت قولتهم في هذا هي قولة ربعي بن عامر ( ) لما سُئل عما جاء به ومن معه قبل أن يدخلوا معركة القادسية ( ) ، قال : (( الله جاء بنا ، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل منا قبلنا منه ، ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر )) ( ) .
* * *
وهاهي الآيات القرآنية تتوالى في تقرير ما تقدم من الهدف من قتال الكفار ، وأنه خشية الفتن والمحن التي تلحق بالمؤمنين بسبب الكفار لو تُركوا من غير قتال ، يقول سبحانه :
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( ) .
وقال سبحانه : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ( ) .
إن هذه الآيات الكريمة تقرر بوضوح مبررات مطاردة الشياطين ، ومناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد لله - تعالى - وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه ، وبشريعة من هواه ورأيه .
نعم إن كل جماعة أو دولة أو نحوهما ممن يريد أن يقطع الصلة بين الناس وربهم - جل وعلا - لابُد أن يقاتلوا حتى لا يخرجوا الناس من هذا الدين الذي يصل بين الإنسان وربه بالعبودية الخالصة ، والطاعة المطلقة ( ) . وإن الذي يعنيه قوله - جل وعلا - في آية الأنفال السابقة ويكون الدين كله لله هو إزالة الحواجز المادية ، المتمثلة في سلطان الطواغيت ، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد ، فلا يكون حينئذٍ سلطان في الأرض لغير الله ، ولا يدين العباد يومئذٍ لسلطان قاهر إلا سلطان الله - عزّ وجل - فإذا أُزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفرادًا يختارون عقيدتهم فرارًا من كل ضغط.
وإن البشرية كل البشرية لن تنال الكرامة التي وهبها الله - تعالى - لها ، ولن يتحرر الإنسان من الأرض إلا حين يكون الدين كله لله - تعالى - فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه ، ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة :
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
فمن قَبِل هذا المبدأ ، وأعلن استسلامه له قَبِل المسلمون إعلانه هذا واستسلامه ، ولم يتفشوا عن نيته ، وما يخفي صدره ، وتركوا هذا لله الذي يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور :
فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير .
تنبيه لابد منه لقائل أن يقول : إذا كانت فتنة الكفار تندفع بقتالهم وجهادهم ، فلماذا لم يفعل ذلك المسلمون في صدر الإسلام في مكة ، رغم اشتداد المحنة ، وتفاقم الفتنة ؟
والجواب على ذلك يمكن إيجازه في سبعة أمور ( ) :
1- أن الكف عن القتال في مكة ربما كان لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة تربية الفرد على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حين يقع عليه ، أو على من يلوذون به .
2- أن الدعوة السليمة كانت أشد أثرًا ، وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية ، والشرف ، والتي قد يدفعها القتال معها في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد ، ونشأة ثارات دموية .
3- لاجتناب إنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت ، إذا لم تكن هنالك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين ، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ، ولو أذن بالقتال لوقعت معركة ومقتلة في كل بيت ، ثم يقال : هذا هو الإسلام .
4- لما يعلمه الله - عزّ وجل - من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم هم أنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين
5- لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، وبخاصة إذا كان الأذى واقعًا على كرام الناس فيهم ( ) .
6- لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، وفي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة ، ولا يقدم للإسلام في الأرض نظام ، ولا يوجد له كيان واقعي ، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، ونظام دنيا وآخرة .
7- أنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلِّها ، والأمر بالقتال ، ودفع الأذى ؛ لأن الدعوة قائمة ، وقائد الدعوة موجود ممكن له ، لم يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ دعوته ، وإعلانها في ندواتهم ، وتجمعاتهم .
فهذه الاعتبارات كلها كانت بعض الأسباب التي دعت المسلمين للكف عن القتال في بداية الدعوة في مكة ، وحثهم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتتم تربيتهم ، وإعدادهم ، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة في الموقف المناسب ، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلِّها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ ، لتكون خالصة لله ، وفي سبيل الله ، والله أعلم .
لتحميل الرابط
http://www.almaktba.com/out.php?bid=5