سبل النجاة من الفتنة( وفيه تسعة مباحث )
المبحث الأول
الاعتصام بالكتاب والسنة إن الكتاب والسنة الصحيحة هما المصدر الأساسي للحق ، والمنبع الصافي لدين الإسلام ، فيهما المنهج الكامل لحياة البشر ، وهما الميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأعمال والأفعال ، وبالإعراض عنهما ، والصد عن سبيلهما تقع الفتن ، وتحل الرزايا والمحن .
ولقد تضافرت أدلة الكتاب والسنة وأقوال السلف في التنبيه على هذا الأمر العظيم ( الاعتصام بالكتاب والسنة ) ، وأن التمسك بهما سبب رئيس في النجاة من الفتن كلِّها .
فمن أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالقرآن قوله - عزّ وجل - : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) ، وقد جاء عن السلف تفسيرات عديدة في المراد بالحبل ، لا تعارض بينها ، ومما ذكروا في تفسير الحبل أنه القرآن ( ) ، وقال الطبري عند قوله سبحانه : ولا تفرقوا : (( يعني جل ثناؤه بقوله : ولا تفرقوا ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله والانتهاء إلى أمره )) ( ) .
وقد لخص الإمام ابن القيم - رحمه الله - حقيقة الاعتصام بالقرآن بقوله : (( وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم ، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم . فمن لم يكن كذلك فهو مُنسل من هذا الاعتصام . فالدين كله في الاعتصام به وبحبله ، علمًا وعملاً ، وإخلاصًا واستعانة ، ومتابعة ، واستمرارًا على ذلك إلى يوم القيامة )) ( ) .
وإن هذا الأمر وهو الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة قد جاء مقررًا في القرآن بأساليب الترغيب كما في قوله سبحانه : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( ) ، وقوله : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا ( ) .
ومن أسلوب الترهيب قوله - جلا وعلا - : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( ) .
وقرر ربُّنا - تعالى - هذا الأمر العظيم - الاعتصام بالكتاب والسنة - بوضوح عند الحديث عن التحاكم ، وأنه يجب أن يكون إلى الكتاب والسنة ، وإلا وقعت الفتنة ، ونزلت المحنة .
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ( ) .
ففي هذه الآية الكريمة أمر - عزّ وجل - برد تنازع الناس كله ، في أصول الدين وفروعه إلى الكتاب والسنة ، وأن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، وأنه لا سلامة
للأمة من جميع الفتن ، وخاصة فتنة الافتراق والاختلاف إلا باتباعهما ( ) .
* * *
وكما تواترت أدلة القرآن على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، فقد جاءت كذلك أدلة السنة على هذا النحو أيضًا ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول وعظ الصحابة موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقيل : يا رسول الله ، وعظتنا موعظة مودع ، فاعهد إلينا بعهد . فقال : (( عليكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإنْ عبدًا حبشيًا ، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين . عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم والأمور المحدثات ، فإن كلَّ بدعة ضلالة )) ( ) .
وفي الحديث الآخر : (( يا أيها الناس : إني قد تركت فيكم ، ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا ، كتاب الله وسنتي )) ( ) .
وفي الحديث الصحيح أيضًا : (( ألا وإني أُوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته ( ) ، يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، وإنّ ما حرّم رسول الله كما حرم الله
فهذا الحديث كله تخويف وتحذير من مغبة مخالفة سنة النبي مما ليس له في القرآن ذكر ، على ما ذَهَبَ إليه كثير من الفرق المبتدعة ( ) ، حتى فُتنوا ، وفَتَنوا ( ) .
وكما أجمعت الأدلة من السنة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وعرفنا أنه بالإعراض عنهما تحصل الفتنة ، وتحل المحنة ، فقد أجمعت كذلك أقوال السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن الفتنة تحدث إذا خالف الناس هذين المصدرين العظيمين .
فهذا ابن عباس - رضي الله عنهما - يأتيه رجل ، ويقول له : أوصني ، فيقول : (( عليك بالاستقامة ، واتباع الأثر ، وإياك والتبدع )) ( ) .
وهذا الإمام القرطبي - رحمه الله - يقول - وهو يعلق على قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( ) - : (( أوجب تعالى علينا التمسك بكتابه ، وسنة نبيه ، والرجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمر بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملاً ، وذلك سبب اتفاق الكلمة ، وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين )) ( ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( يجب أن يعلم يقينًا أنه لا يسوغ
لأحد كائنًا من كان ما كان يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة ، وهذا مما اتفق عليه أولياء الله - عزّ وجل - ، ومَنْ خالف في هذا فليس من أولياء الله - سبحانه - الذين أمر الله باتباعهم ، بل إما أن يكون كافرًا ، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل ، وهذا كثير في كلام المشايخ ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني ( ) : إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة )) ( ) .
وهكذا نرى توافر الأدلة على هذا الأصل العظيم ، مما يبرهن بوضوح أنَّ المسلم لا يمكن أن ينجو من الفتن ، كلِّ الفتن ، إلا إذا تمسك بهذا الأصل ، واتخذه منهاجًا يسير عليه ، ويثبت عليه حتى الممات ، وأن الإعراض عن تحكيم هذين المصدرين العظيمين سبب كبير لحصول الفتن ، وبخاصة عند الاختلاف ، فإن مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع ، إذا لم ترد إلى الكتاب والسنة الصحيحة لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينه من أمرهم ، فإن رحمهم الله - تعالى - أقرَّ بعضهم بعضًا ، ولم يبغِ بعضهم على بعض ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله ، وأيُّ فتنة أعظم من هذه الفتنة ؟!
الرابط للتحميل
http://www.almaktba.com/out.php?bid=5